مهنة الطب
اعداد : حمادة السعيد -
هذه الحلقات المكتوبة إنما هي إشارات سريعة وعاجلة، للفت الأنظار إلى قضية مهمة في زمنِ البطالة لتوجيه أنظار الباحثين عن العمل إلى المهن والحرف وعدم احتقارها أو التهوين من شأنها؛ فلقد حثّ الإسلام على العمل أيًّا ما كان نوعه، شريطة أن يكون بهذا العمل نافعًا لنفسه والآخرين غير ضار لأحد، ويكفي هؤلاء الذين يعملون بالحرف والصناعات شرفا وفخرا وعزة وكرامة أنّ أشرف خلق الله وأفضلهم وهم الأنبياء والرسل قد عملوا بحرفة أو امتهنوا مهنة.
ولقد أشار القرآن الكريم في آياته إشارات واضحة ومباشرة أو ضمنية تفهم في مجمل الآية إلى بعض الحرف والصناعات كذلك حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك وحين يشير القرآن تصريحًا أو تلميحًا إلى أمر ما فهو أمر مهم وعظيم فالقرآن لا يتحدث إلا عما فيه سعادة وصلاح حال البشرية ومن الحرف التي أشار إليها القرآن الكريم في آياته هي مهنة الطب وهي من أهم وأجل المهن لأنها تتعلق بحياة المواطنين ولذا حثّ عليها الإسلام ودعا إلى تعلمها حتى لا تكون صحة المسلمين مرهونة بأيدي غيرهم.
جاء في كتاب «التَّنويرُ شَرْحُ الجَامِع الصَّغِيرِ» لمحمد بن إسماعيل الحسني: «ولما كان طلب الدواء لازمًا للإنسان، أرشد الشارع إليه، وهو مما يحتاج فيه إلى البحث والنظر وطلب العلم. عن ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: [مَا أَنْزَلَ اللهُ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً (أَوْ شِفَاءً) عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ] وفي دلالة الخطاب إشارة إلى أن من الأدوية ما لا يعلمه كل أحد؛ بل في عصرنا الراهن صار علم الدواء واسعًا ومتشعبًا وفيه متخصصون.
والتداوي بقصد الشفاء من الأفعال التي كلف الله بها الإنسان، فهي من الأعمال التي يجب أن يتقيد بها المسلم بالأحكام الشرعية. كدفع الجوع بالأكل، ودفع العطش بالشرب والارتواء، مع الفارق فِي النتيجة؛ لأن المرض يقع على الإنسان بقضاء الله، وجعل الله له الدواء، والشفاء من عند الله سبحانه وتعالى، فإذا أصاب دواء الداء برأ المريض بإذن الله، وإذا لم يصبه أجره على الله فِي الصبر والاحتساب. باستثناء الهرم، أي الموت؛ لأنه لا دواء له، والهرم نقص الصحة طبيعيًا، فحال الإنسان فيه يقترب من الموت.
ولقد نهى الشارع عن التداوي بحرام، فعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: [إِنَّ الله أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا وَلاَ تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ].
وفي مصنف ابن أبي شيبة عن هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، قَالَ: جُرِحَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «ادْعُوا لَهُ الطَّبِيبَ» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يُغْنِي عَنْهُ الطَّبِيبُ؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ مَعَهُ شِفَاءً» وعن عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً أَوْ لَمْ يَخْلُقْ دَاءً إِلَّا وَقَدْ أَنْزَلَ أَوْ خَلَقَ لَهُ دَوَاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، إِلَّا السَّامَ» قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا السَّامُ؟ قَالَ: «الْمَوْتُ». وفيه دعوة ضمنية لطلب الطبيب الماهر في مهنته ومن ثم هي دعوة لتعلم مهنة الطب. وكذلك في الحديث الذي رواه ابن أبي شيبة أيضا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ رَجُلًا أَصَابَهُ جُرْحٌ، فَاحْتَقَنَ الدَّمُ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَعَا لَهُ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي أَنْمَارٍ فَقَالَ: «أَيُّكُمَا أَطَبُّ؟» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ فِي الطِّبِّ خَيْرٌ؟ فَقَالَ: «إِنَّ الَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ أَنْزَلَ الدَّوَاءَ» وعَنْ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: «وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ» [القيامة: 27] قَالَ: «مَنْ طَبِيبٌ».
وجاء في كتاب «عصر الخلافة الراشدة» لأكرم بن ضياء العمري :لقي الطب اهتمامًا واضحًا، وكانت أحداث الجهاد وكثرة الجراحات دافعًا قويًا لذلك، وقد ورث المسلمون خبرات العصر الجاهلي الطبية، وأشهر أطباء العرب الذين عاصروا ظهور الإسلام الحارث بن كلدة الثقفي والمتطبب الشمردل بن قباث الكعبي النجراني وكان ضماد بن ثعلبة الأزدي يتطبب أي يمارس مهنة الطب، وقد رحل في طلب علم الطب.
وقد أضاف النبي -صلى الله عليه وسلم- رصيدًا ضخمًا إلى التراث الطبي الجاهلي كما يظهر ذلك في كتب الطب النبوي، ولا شك أن علم الطب ازداد رصيده في عصر الراشدين بإضافة معلومات الفرس والروم الطبية إليه.
وجاء في كتاب: سيرة السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها للسيد سليمان الندوي: يقول عروة: (ما رأيت أحدا أعلم بالطب منها) ومعروف أن فن الطب لم يكن رائجًا عند العرب بكل أصوله وقواعده، وقد تعلمت عائشة رضي الله عنها فن الطب من هؤلاء الأطباء الذين كانوا يعالجون بالأعشاب وخواص الأشياء الطبيعية، وقد سألها عروة بن الزبير، وكان يتملكه العجب من إحاطة السيدة بكل هذه العلوم فقالت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يسقم عند آخر عمره أو في آخر عمره، فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فتنعت له الوصفات وكنت أعالجها له فمن ثم) أي كانوا يصفون له وصفات دوائية فكنت أتعلمها. ومعرفة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالطب كانت مثل ما كانت تعالج النساء الكبيرات في السن الأطفال، وتحفظ بعض الأنعات والوصفات الطبية المجربة لبعض الأمراض والأسقام، لأن النساء كانت تشارك الرجال في صدر الإسلام في تحمل أعباء الجهاد في سبيل الله، وكان جهادهن يتناسب مع أنوثتهن، وكان في الأعم الأغلب مقتصرًا على إعداد الطعام وسقي الماء وتمريض الجرحى وإخلاء القتلى، وفي هذا دليل على أن نساء ذلك العصر كن يلممن بهذا الفن قدر الحاجة.
وجاء في «موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين»:عُرف الإسلام بأنه يدعو إلى التوكل على الخالق -جل شأنه-، ويوجه القلوب إلى تفويض الأمور إليه في كل حال، وهو إن عد التوكل والتفويض إلى الله في جملة آدابه، لم يهمل النظر في الأسباب، وارتباطها بمسبباتها، فأذن، بل أمر بتعاطي ما دلت العقول والتجارب على أنه مجلبة خير، ونهى عن القرب مما عرف بأنه مجلبة شر، والطب إنما هو من قبل الأسباب التي أذن الإسلام في تعاطيها، وهو من أشرف الصناعات، وشرف الصناعة على قدر ما يترتب عليها من نفع الأمة، وتقويم أود حياتها.
ونفعُ الطب في حماية الناس، أو إنقاذهم من كثير من المهالك، أمرٌ جلي لا يحتاج إلى بسط واستدلال. ولا جرم أن يتجه الإسلام بشيء من العناية إلى الطب، ذلك أنه يريد من الأمة أن تكون عزيزة الجانب، مهيبة السلطان حتى تستطيع أن تنفذ ما أمر الله به من إصلاح، وتتحامى ما نهى عنه من فساد، وإنما يعز جانبها، ويهاب سلطانها، متى كانت كثيرة العدد، قوية الأيدي، والطب من أهم الوسائل إلى كثيرة النسل، وقوة الأجسام.
لما دخل عضد الدولة بغداد، دخل عليه من الأطباء: أبو الحسن الحراني، وسنان بن ثابت، فقال: من هؤلاء؟ قالوا: الأطباء، قال: نحن في عافية، وما بنا حاجة إليهم، فقال له سنان: أطال الله بقاء مولانا، موضوع صناعتنا حفظ الصحة، لا مداواة المرضى، والملك أحوج الناس إلى حفظ الصحة، فقال عضد الدولة: صدقت، وقرر لهما الجاري السنوي، وقربهما إلى مجلسه في طائفه من الأطباء.
وقد رفع الإسلام من شأن الطب: مداواة العلل، وحفظ الصحة، وعرف هذا من القرآن الكريم، وأقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرته.
فهذا هو هدي نبينا فمن اتبع هذا الهدي عاش كريمًا.